الاثنين، 13 يونيو 2016

من ضوابط الإفتاء في قضايا النوازل بحث للدكتور رجب ابومليح محمد

من ضوابط الإفتاء في قضايا النوازل  بحث للدكتور رجب ابومليح محمد
الدكتور رجب ابومليح محمد

من ضوابط الإفتاء في قضايا النوازل بحث للدكتور رجب ابومليح محمد

لتحميل البحث كاملا اضغط هنا من ضوابط الإفتاء في قضايا النوازل

مقدمة

الفتوى منصب عظيم الأثر، بعيد الخطر؛ فالمفتي -كما قال الإمام الشاطبي- قائم مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو خليفته ووارثه “العلماء ورثة الأنبياء”، وهو نائب عنه في تبليغ الأحكام، وتعليم الأنام، وإنذارهم بها لعلهم يحذرون، وهو إلى جوار تبليغه في المنقول عن صاحب الشريعة.. قائم مقامه في إنشاء الأحكام في المستنبط منها بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه – كما قال الشاطبي – شارع، واجب اتباعه، والعمل على وفق ما قاله، وهذه هي الخلافة على التحقيق.

واعتبر الإمام أبو عبد الله بن القيم المفتي مُوقِّعًا عن الله تعالى فيما يفتي به، وألف في ذلك كتابه القيم المشهور “إعلام الموقعين عن رب العالمين” الذي قال في فاتحته:

“إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟!”

وقد عرف السلف – رضي الله عنهم – للفتوى كريم مقامها، وعظيم منزلتها وأثرها في دين الله وحياة الناس، ومن هذا تهيبهم للفتوى، وتريثهم في أمرها، وتوقفهم في بعض الأحيان عن القول، وتعظيمهم لمن قال: “لا أدري” فيما لا يدري، وإزراؤهم على المتجرئين عليها دون اكتراث، استعظاما منهم لشأنها، وشعورا بعظم التبعة فيها.

وأول الناس في ذلك الصحابة؛ فكان كثير منهم لا يجيب عن مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه، مع ما رُزقوا من البصيرة والطهارة والتوفيق والسداد، كيف لا، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل أحيانا فلا يجيب حتى يسأل جبريل؟

وكان الخلفاء الراشدون -مع ما آتاهم الله من سعة العلم- يجمعون علماء الصحابة وفضلاءهم عندما تعرض لهم مشكلات المسائل، يستشيرونهم، ويستنيرون برأيهم، ومن هذا اللون من الفتاوى الجماعية نشأ الإجماع في العصر الأول.

وكان بعضهم يتوقف عن الفتوى فلا يجيب ويحيل إلى غيره أو يقول: لا أدري. قال عتبة بن مسلم: صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا؛ فكان كثيرا ما يُسأل فيقول: لا أدري!( ).

يقول الإمام النووي -رحمه الله- في مقدمة كتاب المجموع شرح المهذب:

اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر،‏ كبير الموقع،‏ كثير الفضل؛‏ لأن المفتي وارث الأنبياء ‏‏-صلوات الله وسلامه عليهم‏-‏ وقائم بفرض الكفاية ولكنه معرض للخطأ‏؛ ولهذا قالوا:‏ المفتي موقع عن الله تعالى.

وروينا عن ابن المُنكدر قال:‏ (العالم بين الله تعالى وخلقه،‏ فلينظر كيف يدخل بينهم).‏

وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة، نذكر منها أحرفا تبركا.

وروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:‏ (أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا،‏ وهذا إلى هذا،‏ حتى ترجع إلى الأول).‏ وفي رواية:‏ (ما منهم من يحدث بحديث،‏ إلا وَدَّ أن أخاه كفاه إياه،‏ ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا)”.‏ ‏

‏وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: “مَنْ أفتى عن كلِّ ما يُسأل فهو مجنون”.

وعن الشعبي والحسن وأبي حَصِين -بفتح الحاء- التابعيين قالا:‏ “إن أحدَكَم ليفتي في المسألة ولو وَرَدَتْ على عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر”.

وعن عطاء بن السائب التابعي:‏ “أدركتُ أقواما يُسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد”.

وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان:‏ “إذا أغفل العالم ‏(‏لا أدري‏)‏ أُصِيبت مقاتله”.‏

وعن سفيان بن عيينة وسحنون:‏ “أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما”.‏

وعن الشافعي -وقد سئل عن مسألةٍ فلم يجب-،‏ فقيل له،‏ فقال:‏ “حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب”.‏

وعن الأثرم:‏ سمعتُ أحمد بن حنبل يكثر أن يقول:‏ (لا أدري)،‏ وذلك فيما عرف الأقاويل فيه.‏

وعن الهيثم بن جميل:‏ “شهدتُّ مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها:‏ (لا أدري)”.‏

وعن مالك أيضا‏ أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها،‏ وكان يقول:‏ “من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصه، ثم يجيب”.‏

وسئل عن مسألة فقال:‏ (لا أدري)،‏ فقيل:‏ هي مسألة خفيفة سهلة،‏ فغضب وقال:‏ (ليس في العلم شيء خفيف).‏

وقال الشافعي:‏ “ما رأيتُ أحدا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا”.‏

وقال أبو حنيفة:‏ “لولا الفَرَقُ -الخوف- من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيتُ،‏ يكون لهم المهنأ وعلي الوزر”.‏

وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة.‏

قال الصيمري والخطيب:‏ “قلَّ من حرص على الفتيا،‏ وسابق إليها،‏ وثابر عليها،‏ إلا قلَّ توفيقُه،‏ واضطرب في أموره،‏ وإن كان كارها لذلك،‏ غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة،‏ وأحال الأمر فيه على غيره،‏ كانت المعونة له من الله أكثر،‏ والصلاح في جوابه أغلب”.

واستَدَلا بقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح:‏ ‏(لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها،‏ وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعِنتَ عليها)( ).

هذا عن الإفتاء بصفة عامة، أما الإفتاء في قضيا النوازل فإنه أعظم خطرا، وأشد أثرا؛ فالمفتي يسير في طريق غير معبَّد، وواقع يشتبك فيه السياسي والاجتماعي والاقتصادي مع الفقهي والشرعي، ولا بد من التريث؛ حيث إن العجلة مدمرة هنا، بخاصة إن كان الأمر يتعلق بفتاوى الأمة لا بفتاوى الأفراد؛ فبهذه الفتوى تُحل دماء أو تُحرم، وتُستباح حرمات أو تصان؛ فعلى المفتي التأني والتدبر والتشاور للوقوف على الأمر بكافة جوانبه، ومعرفة مآلات الفتوى، وكثيرا ما نردد أن قضايا كثيرة من قضايا الأمة لا يصلح لها الفرد مهما كان علمه غزيرا وعقله رشيدا وبصره حديدا؛ بل لا بد من أن يجتمع عليها عدد من العلماء من تخصصات متعددة ينضجونها بالنقاش والحوار، ثم يأتي الفقيه أو مجموعة من الفقهاء بعد أن يعوا الواقع ويعلموه من كل جوانبه ليصدروا فتواهم في هذه المسألة.

وهذا بحث أردت أن أسجل فيه خبرة موقع (إسلام أون لاين)؛ حيث إنه من أوائل المواقع التي قدمت الفتوى على الإنترنت منذ عام 1999 وحتى كتابة هذه السطور، وقد كنت شاهدا على هذه الخبرة ومشاركا فيها طوال هذه الفترة، ولأن المجال لا يتسع لرصد هذه الخبرة بكل جوانبها اضطررت إلى اختيار بعض النماذج التي عالجناها خلال هذه الفترة الماضية.

وقد قسمت البحث إلى سبعة مباحث:

المبحث الأول (تمهيد) ويتناول:

1-         تعريف الفتوى لغة واصطلاحا.

2-         تعريف النوازل لغة واصطلاحا.

3-         منهج إسلام أون لاين في تقديم الفتوى.

4-         آداب المفتي والمستفتي

5-         ضوابط الإفتاء في قضايا النوازل.

المبحث الثاني: نماذج من فتاوى النوازل في العبادات:

1-         استحالة النجاسة (الأدوية ومستحضرات التجميل – مياه الصرف الصحي بعد المعالجة – أطعمة بها شحوم الخنزير).

2-         إمامة المرأة للمسلمين في صلاة الجمعة.

المبحث الثالث: نماذج من فتاوى النوازل في المعاملات المالية.

1-         فتاوى المسابقات.

2-         التسوق الشبكي.

3-         التأمين والمعاملات المصرفية.

4-         إجراء العقود بوسائل الاتصالات الحديثة.

المبحث الرابع: نماذج من قضايا النوازل في الأحوال الشخصية

1-         بقاء المسلمة التي أسلمت دون زوجها مع زوجها.

2-         صور مستحدثة من النكاح (زواج المسيار – الزواج السري – زواج الأصدقاء…).

3-         الخطبة والزواج عن طريق الإنترنت.

المبحث الخامس: نماذج من قضايا النوازل في الحدود والجنايات

1-         حوادث النقل الجماعي وكيفية دفع الدية.

2-         اختطاف الرهائن والطائرات.

المبحث السادس: نماذج من قضايا النوازل في القضايا الطبية

1-         رفع أجهزة الإنعاش عن المريض.

2-         نقل الأعضاء وزراعتها.

3-         استئجار الأرحام والتلقيح الصناعي خارج الرحم.

المبحث السابع: نماذج من قضايا النوازل في السياسة الشرعية

1-         القواعد العسكرية في البلاد الإسلامية.

2-         مشاركة المسلم الأمريكي في الحرب على المسلمين.

المبحث الثامن صور جديدة من الجهاد المعاصر

1-         العمليات الاستشهادية .

2-         المقاطعة الاقتصادية .

تمهيد

1-         تعريف الفتوى لغة واصطلاحا

الفتوى لغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع الفتاوى والفتاوي. يقال: أفتيته فَتْوى وفتيا، إذا أجبته عن مسألته. والفتيا: تبيين المشكل من الأحكام. وتفاتوَا إلى فلان: تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا. والتفاتي: التخاصم. ويقال: أفتيت فلانا رؤيا رآها، إذا عَبَرَتها له، ومنه قوله تعالى حاكيا عن ملك مصر: ?يَا أَيُّهَا الْمََلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي? ( يوسف: 43 ).

والاستفتاء لغة: طلب الجواب عن الأمر المشكل، ومنه قوله تعالى: ?وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا? (الكهف: 22). وقد يكون بمعنى مجرد السؤال، ومنه قوله تعالى: ?فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا? (الصافات: 11)، قال المفسرون: أي اسألهم.

والفتوى في الاصطلاح: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه، وهذا يشمل السؤال في الوقائع وغيرها.

والمفتي لغة: اسم فاعل أفتى؛ فمن أفتى مرة فهو مفتٍ، ولكنه يحمل في العرف الشرعي بمعنى أخص من ذلك، قال الصيرفي: هذا الاسم موضوع لمن قام للناس بأمر دينهم، وعَلِم جُمَل عموم القرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك السنن والاستنباط، ولم يوضع لمن عَلِم مسألة وأدرك حقيقتها؛ فمن بَلَغ هذه المرتبة سمّوهُ بهذا الاسم، ومن استحقه أفتى فيما اسُتفتي فيه.

وقال الزركشي: المفتي من كان عالما بجميع الأحكام الشرعية بالقوة القريبة من الفعل، وهذا إن قلنا بعدم تجزؤ الاجتهاد( ).

2-         تعريف النوازل لغة واصطلاحا

فقه النوازل مركَّب إضافي من كلمتين: كلمة (الفقه)، وكلمة (النوازل)، والفقه هو الفهم العميق، واصطلاحا: العلم بالأحكام العملية الشرعية من أدلتها التفصيلية.

والنوازل جمع نازلة، والنازلة هي الشيء الذي حل، وقد أصبح اسما على الشدة من شدائد الدهر كما يقول الشاعر:

ولرُب نازلةِ يضيقُ بها الفتى ذرعا وعند الله فيها المخرجُ

وتطلق عند الحنفية على الفتاوى والمسائل التي استنبطها المجتهدون المتأخرون في المذهب، ولم يجدوا فيها شيئا عن أهل المذهب المتقدمون من أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه.

وعند المالكية يراد بها القضايا والوقائع التي يفصل فيها القضاء، ومن هنا أتى كتاب أبي الوليد القرطبي المتوفى 606هـ (المفيد للحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام).

واشتهر عند الفقهاء أن النوازل هي المسائل الجديدة التي تتطلب اجتهادا وبيان حكم، ويمكننا أن نخلص مما سبق أن فقه النوازل هو معرفة الأحكام الشرعية للوقائع المستجدة الملحة( ).

فالنوازل لا بد أن تتوافر فيها شروط ثلاثة:

أولا: أنها واقعة بالفعل وليست متخيلة كمن يسأل الآن عن أحكام الزراعة على سطح القمر، وهل يصدق عليها أحكام إحياء الأرض الموات أم لا؟ فهذه مسألة لم تحدث، ووقوعها صعب الآن وإن لم يكن مستحيلا؛ فإن وقعت اجتمع لها العلماء في ضوء المعلومات والمستجدات الموجودة واجتهدوا فيها رأيهم.

وهذا لا ينافي أن يكون الفقه سباقا إلى المسائل التي أصبحت قريبة الحدوث أو متوقعة مثل أحكام الاستنساخ التي نجحت في النباتات والحيوانات ولم تنجح على الإنسان حتى الآن، لكنها قد تقع في وقت قريب، وهذه تحتاج إلى اجتهاد يتناول حكم الاستنساخ، وحكم ما يترتب عليه من قضايا النسب والميراث وغير ذلك.

ثانيا: أن تكون ملحة؛ أي تتطلب حكما فقهيا في أقرب وقت، وإلا فات وقتها؛ فكثير من الفتاوى التي تتعلق بالإجهاض مثلا تتطلب حكما فقهيا سريعا؛ لأن عامل الزمن يؤثر في الحكم الفقهي عند من يجيزون الإجهاض قبل الأربعين يوما الأولى أو قبل المائة وعشرين يوما، وكذلك معرفة بداية الشهور القمرية ونهايتها، وتحديد يوم عرفة وغير ذلك من الأحكام التي تتأثر بعامل الزمن.

ثالثا: أن تكون مستجدة؛ فإن كانت قديمة وأفتى فيها العلماء من قبل لم تُعد نازلة، لكن مصدر الجدة هنا ربما لا يأتي من المسألة نفسها لكن يأتي من تغير الزمان والمكان والأحوال، وهذا يؤثر في تغير الأحكام.

3-         منهج إسلام أون لاين في تقديم الفتوى

– رصد خبرة الفتوى في الموقع:

  بدأت خدمة الفتوى مع بداية الموقع في أكتوبر 1999، وقد تمت الإجابة عما يزيد عن 500000 (خمسمائة ألف) فتوى خلال السنوات السبع الماضية، تتقسم هذه الفتاوى إلى ما يلي:

أولا: فتاوى البنك الدائم: وفيه 13000 فتوى مصنفة حسب الموضوع واسم المفتي، ويمكن للمستخدم أن يبحث بأي كلمة في العنوان أو النص، كما يمكنه البحث من خلال اسم المفتي، وهذا البنك يضم الفتاوى التي سألها الناس خلال هذه الفترة، وأيضا كتب الفتوى المعاصرة مثل ما كتبه فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، والشيخ جاد الحق، والشيخ عطية صقر، وبعض ما كتبه الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله، وسماحة الشيخ الخليلي وغيرهم، سواء كانت فتاوى مجتهدين أفراد أو فتاوى مجامع فقهية مثل مجمع الفقه الدولي بجدة، والمجمع الفقهي بمكة، ومجمع البحوث الإسلامية بمصر، والمجلس الأوربي للبحوث والإفتاء وغير ذلك من فتاوى دور الإفتاء في العالم الإسلامي.

ويستطيع المسلم العادي الحصول على فتاواه من خلال البحث في موضوعات البنك المصنفة حسب ترتيب أبواب الفقه من خلال شجرة فقهية، تصنف فيها المسائل حسب موضوعها الأصلي من عبادات ومعاملات وأحكام أسرة وغيرها، وحسب موضوع فرعي مثل الطهارة والغسل مثلا.

ويستطيع الباحث الحصول على مادة متكاملة من خلال البحث الموضوعي؛ فلدينا عشرات الفتاوى عن السياسة الشرعية، وعشرات الفتاوى عن التربية الجنسية وآدابها وحدودها وعلاقة الرجل بالمرأة؛ سواء كانت أجنبية أو مخطوبة أو زوجة أو غير ذلك.

كما يستطيع الباحث الحصول على مجموعة متكاملة عن فتاوى الحرب الأمريكية وأثرها على الأمة الإسلامية، وكذلك فتاوى فلسطين والعراق وغيرها من القضايا المثارة في الوقت الحالي، بالإضافة لفتاوى العبادات والمعاملات وغيرها.

ثانيا: الفتاوى المباشرة: وقد عقدت ما يزيد على 1000 حلقة للفتاوى المباشرة، متوسط عدد الفتاوى في هذه الحلقات 25 فتوى؛ فيكون مجموع الفتاوى 25000 فتوى تقريبا، وتتميز الفتاوى في هذه الخدمة بسرعة الرد على المستفتي، لكنها ربما تفتقد إلى شيء من التأصيل والتفصيل لكنها تفي بحاجة المستفتي.

وما يميز هذه الفتاوى هو السرعة في تلقي الإجابة؛ حيث يتلقى السائل الإجابة خلال دقائق من إرسال السؤال، ويستطيع أن يتواصل مع المفتي بالاستيضاح أو التعقيب أو غير ذلك.

كما تتميز أيضا بوضع السائل على الحكم مباشرة دون الدخول في تفاصيل كثيرة، قد تشغله في بعض الأحيان عن الوصول إلى الحكم الشرعي بوضوح.

وتتميز أيضا هذه الفتاوى بالتواصل مع عدد كبير من المفتين يغطون رقعة واسعة من العالم العربي والإسلامي؛ فلدينا أكثر من مائة عالم وفقيه يمثلون معظم الدول العربية والإسلامية.

ثالثا: فتاوى البنك المؤقت: وهذه تمثل النسبة الكبرى في الفتاوى الواردة، وهذه إما مكررة أو تحمل نوعا من الخصوصية يريد السائل أن تظل محفوظة له، وهي موجودة لدينا على قاعدة بيانات لكنها غير معلنة.

– ما تقدمه صفحة الفتوى:

وتعنى صفحة الفتاوى بالرد على أسئلة المستفتين في كل ما يقابلهم من مسائل تعرض لهم في الفقه والعقيدة والتفسير والحديث، كما تعرض لما يقابلهم من مشاكل نفسية أو فكرية ولها مدخل شرعي، كما تتناول جانب الأخلاق والآداب من وجهة نظر الشرع أيضا.

كما تقوم الصفحة بإثارة القضايا الجديدة التي ربما لا يلتفت إليها المستفتون؛ فتقوم بعرضها على العلماء والمتخصصين لإبداء الرأي حولها، سواء كانت في جانب السياسة الشرعية أو في جانب المعاملات المالية الحديثة أو غير ذلك.

تتنوع الأسئلة الواردة إلى الصفحة؛ فبعضها يسأل عن المسائل الفقهية القديمة كالطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج والأحوال الشخصية وسائر المعاملات المالية وغيرها والحدود والجنايات، وبعضها يسأل عن الأمور المستجدة التي تقابل المسلم في البلاد (غير الإسلامية)، وبعضها يسأل عن المعاملات المالية الحديثة كسوق الأوراق المالية وغيرها.

وتأخذ قضايا الإنترنت حيزا معقولا من هذه الأسئلة الواردة كالمراسلة بين الرجل والمرأة عبر الإنترنت والزواج والبيع والشراء عن طريق الإنترنت، وغير ذلك من القضايا الحديثة التي أثيرت بسبب استعمال الناس للإنترنت في البيع والشراء والزواج والطلاق والتعامل المادي وغير ذلك.

كما تثار عبر الصفحة مسائل العلاقة الخاصة بين الزوجين وآداب المعاشرة، خاصة تلك التي عرفها المسلمون من خلال احتكاكهم بالغرب؛ سواء كان الاحتكاك مباشرا أم عن طريق وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.

– منهج إسلام أون لاين في تقديم الفتوى:

يعتمد الموقع منهج الوسطية في تقديم الفتوى للجمهور، ونعني بالوسطية في تقديم الفتوى الميزان والموازنة والتوازن بين الثبات والتغير، بين الحركة والسكون، وهي التي تأخذ بالعزائم دون التجافي عن الرخص في مواطنها.

وهي التي تطبق الثوابت دون إهمال للمتغيرات، تتعامل مع تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع، تقيم وزنا للزمان ولا تحكمه في كل الأحيان، تفرق بين المتماثلات والمتباينات؛ إعمالا للحاجات وللمصالح وعموم البلوى والغلبة وعسر الاحتراز.

ونعني بالوسطية هنا المقارنة بين الكليّ والجزئيّ، والموازنة بين المقاصد والفروع، والربط بين النصوص ومعتبرات المصالح في الفتاوى والآراء؛ فلا شطط ولا وكس.

وللتدليل على مفهوم الوسطية في الفتوى نقتطف من الموافقات القطوف التالية إذ يقول الشاطبي: “المفتى البالغ ذِروة الدرجة هو الذي يَحمِلُ الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور؛ فلا يذهب بهم مذهبَ الشِّدَّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.

والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة؛ فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلفِ الحملُ على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين.

وأيضا: فإن هذا المذهب كان المفهومَ من شأن رسول الله ? وأصحابه الأكرمين، وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل.

وقال لمعاذ لمَّا أطال بالناس في الصلاة:(أفتان أنت يا مُعاذ؟)( ). وقال: (إن منكم مُنَفِّرين)( ).

وقال: (سَدِّدوا وقارِبوا واغدُوا ورُوحوا وشيءُ من الدُّلْجة والقصدَ القصدَ تَبلُغُوا)( )، وقال: (عَلَيْكُم مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فإنَّ اللهَ لا يمَلُّ حتى تمَلُّوا). وقال: (أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاومَ عَلَيْهِ صَاحِبُه وإِنْ قَلَّ)( )

ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا.

وأيضا: فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق. أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا.

لأن المستفتي إذا ذُهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن السلوك طريق الآخرة وهو مشاهد.

وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة.

والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلكة، والأدلة كثيرة”( ).

وتقوم وسطية الفتوى على أربع ركائز:

أولا- قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان:

وكان عمر -رضي الله عنه- ممن له نصيب في تأصيل هذه القاعدة؛ فمن ذلك أنه لم يعط المؤلفة قلوبهم مع ورود ذلك في القرآن، ورأى أن عز الإسلام موجب لحرمانهم.

وكذلك إلغاؤه للنفي في حد الزاني البكر خوفا من فتنة المحدود والتحاقه بدار الكفر؛ لأن إيمان الناس يضعف مع الزمن.

ومن ذلك أمر عثمان بالتقاط ضالة الإبل، مع ورود النهي عن هذا الفعل؛ وذلك لما رأى من فساد الأخلاق وخراب الذمم، وورّث تماضر الأسدية لمّا طلقها عبد الرحمن في مرض موته..

وأمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- يضمن الصناع بعد أن كانت يد الصانع أمانة قائلا: (لا يُصلح الناس إلا ذاك).

وقد وردت هذه القاعدة في مجلة الأحكام العدلية بعنوان: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان).

غير أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها؛ فالمأموريات والمنهيات المعلومة من الدين بالضرورة لا تخضع لقاعدة التغير بسبب الزمان.

فالذي يتغير هو الأحكام الاجتهادية، وأما القطعيات من الأحكام فلا تتغير؛ فلا يمكن أن تتغير المواريث بدعوى أن المرأة أصبح لها شأن، ولا يمكن أن يتغير تحريم ربا النسيئة في بلاد الإسلام، ولا تحريم أكل الميتة والخنزير.

وتغير الفتوى لا يكون إلا لترجح مصلحة شرعية لم تكن راجحة في وقت من الأوقات، أو لدرء مفسدة حادثة لم تكن قائمة في زمن من الأزمنة.

والأمثلة في المذاهب كثيرة، منها ما نقله ابن عابدين في حاشيته من أن المتقدمين من فقهاء المذهب يرون بطلان الإجارة على الطاعات، ولكن جاء المتأخرون، وصححوها على تعليم القرآن، ثم جاء من بعدهم وصححوها على الأذان والإمامة، وذلك للضرورة، والحفاظ على تعليم القرآن وإقامة الشعائر.

وفي مذهب الأحناف أيضا أن المرأة إذا قبضت معجل المهر، فعليها اتباع زوجها حيث شاء، ثم جاء المتأخرون وأفتوا بخلاف ذلك، ورأوا بأن المرأة لا تجبر على السفر مع زوجها إلى مكان إذا لم يكن وطنا لها وذلك لفساد الزمان والأخلاق( ).

ثانيا- قاعدة العرف:

  وهذا أصل هام من أصول الفتوى، نطق به العلماء؛ حيث قال ابن عابدين: “ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر الرواية ويتركا العرف”( ).

وقال الإمام القرافي في حديثه عن العرف: “وعلى هذا القانون تُراعى الفتاوى على طول الأيام؛ فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك؛ بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجرِه على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجره عليه، وأفته به دون بلدك والمقرر في كتبك؛ فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات؛ فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحا مستغنية عن النيّة”( ).

ثالثا: قاعدة النظر في المآلات:

ومما يصب في جداول المصلحة ويسير في دربها قاعدة النظر في المآلات في الأقوال والأفعال، وقد نص الشاطبي على أن المفتي عليه أن ينظر في مآل فتواه، وقد فصل الإمام الشاطبي في هذا الأمر، ورأى أن المفتي عليه أن يتمهل، وأن ينظر ما يؤول الأمر في فتواه؛ فقد يكون هناك شيء مشروع لجلب منفعة، أو لدرء مفسدة، ولكنه له مآل على خلاف ما قصد، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك.

  وتأصيل ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 108)،  وقوله صلى الله عليه وسلم: “لولا قومك حديث عهد بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم”( ).

 وقوله في تعليل انصرافه عن قتل المنافقين: دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، أخاف أن يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه”( ).

والصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يفهمون مقصد الشارع، ويتصرفون وفقا لهذا الفهم؛ فهذا أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- يترك تغريب الزاني البكر مع وروده في الحديث؛ حيث قضى -عليه الصلاة والسلام- بجلده مائة وتغريبه سنة؛ وذلك لما وجد أن التغريب قد يؤدي إلى مفسدة أكبر، وهى اللحاق بأرض العدو، وقال: “لا أغرب مسلما”.

وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: “كفى بالنفي فتنة”.

وأيضا فإن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- لمّا تولى الملك أجّل تطبيق بعض أحكام الشريعة، فلمّا استعجله ابنه في ذلك أجابه بقوله: “أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعونه جملة، ويكون من ذا فتنة”( ).

وهذا الإمام ابن تيمية -رحمه الله- حين رأى صاحبا له يكلمه عن التتار يشربون الخمر، وأنه واجب عليه أن ينهاهم، فقال له: “إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذّرية وأخذ الأموال فدعهم”( ).

رابعا- قاعدة تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع:

وتحقيقُ المناط في الأنواع، واتفاقُ الناس عليه في الجملة مما يشهد له كثير من الأدلة، من ذلك: ما ورد عن ابن سيرين أنه قال: كان أبو بكر يُخافِت، وكان عمرُ يَجهر -يعني في الصلاة- فقيل لأبي بكر: كيف تفعل؟ قال: أناجي ربِّي وأتضرع إليه، وقيل لعمر: كيف تفعل؟ قال: أوقِظُ الوَسْنانَ، وأطردُ الشَّيطان، وأُرضي الرحمن. فقيل لأبي بكر: ارفعْ شيئا، وقيل لعمر: اخْفِض شيئا.

وفي الصحيح أن ناسا جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنا نجدُ في أنفسنا ما يتعاظم أحدُنا أن يتكلَّمَ به. قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريحُ الإيمان.

وقال عليّ: “حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يُكذَّبَ اللهُ ورسوله؟”؛ فجعل إلقاء العلم مقيدا؛ فَرُبَّ مسألةٍ تصلُح لقوم دون قوم، وقد قالوا في الرَّباني: إنه الذي يُعلِّمُ بصغارِ العلم قبل كِباره؛ فهذا الترتيب من ذلك.

وقد فرَّع العلماء على هذا الأصل؛ كما قالوا في قوله تعالى {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33).

إن الآية تقتضي مطلق التخيير، ثم رأوا أنه مقيَّدُ بالاجتهاد؛ فالقتل في موضع، والصلب في موضع، والقطع في موضع، والنفي في موضع، وكذلك التخيير في الأسارى من المَنِّ والفداء.

وكذلك جاء في الشَّريعة الأمرُ بالنِّكاحِ وعَدُّوه من السُّنن، ولكن قسَّموه إلى الأحكام الخمسة( ).

ونستطيع أن نلخص منهج تقديم الفتوى في الموقع في النقاط التالية:

أولا- التحرر من العصبية المذهبية، والتقليد غير العلمي  للمتقدمين أو المتأخرين: فالموقع لا يعتمد مذهبا فقهيا واحد في كل فتاويه؛ فليست الفتاوى التي تصدر عنه تعبر عن المذهب الشافعي وحده ولا الحنفي دون غيره؛ بل يأخذ من المذاهب كلها، ولا يقف عند مذاهب أهل السنة بل يأخذ من الفقه الإباضي والزيدي والظاهري وغيره.

وهو أيضا لا يقف عند فقهاء بلد بعينه؛ فيأخذ من فقهاء مصر والشام والمغرب والخليج بل يمتد ليشمل الفقهاء في بلاد الهند وغيرهم الذين يعيشون في أمريكا وأوربا وغيرها حسب حاجة السؤال.

يقول فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي في مقدمة كتابه (فتاوى معاصرة): “حسب العالم المستقل في هذا الموقف أمور:

( أ ) ألا يلتزم رأيًا في قضية بدون دليل قوي، سالم من معارض معتبر، ولا يكون كبعض الناس الذين ينصرون رأيًا معينًا لأنه قول فلان، أو مذهب فلان، دون نظر إلى دليل أو برهان، مع أن الله تعالى يقول: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) ولا يسمى العلم علمًا إذا كان ناشئًا من غير دليل.

ولقد قال الإمام علي -كرّم الله وجهه-: (لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله).

( ب ) أن يكون قادرًا على الترجيح بين الأقوال المختلفة، والآراء المتعارضة بالموازنة بين أدلتها، والنظر في مستنداتها من النقل والعقل؛ ليختار منها ما كان أسعد بنصوص الشرع، وأقرب إلى مقاصده، وأولى بإقامة مصالح الخلق التي نزلت لتحقيقها شريعة الخالق.

وهذا أمر ليس بالعسير على من ملك وسائله من دراسة العربية وعلومها، وفهم المقاصد الكلية للشريعة، بجانب الاطلاع على كتب التفسير والحديث والمقارنة.

( ج ) أن يكون أهلا للاجتهاد الجزئي: أي الاجتهاد في مسألة معينة من المسائل وإن لم يكن فيها حكم للمتقدمين؛ بحيث يستطيع أن يعطيها حكمها بإدخالها تحت عموم نص ثابت، أو بقياسها على مسألة مشابهة منصوص على حكمها، أو بإدراجها تحت الاستحسان أو المصالح المرسلة، أو غير ذلك من الاعتبارات والمآخذ الشرعية.

والقول بتجزئة الاجتهاد هو الصحيح الذي اتفق عليه المحققون.

ومن أبين العبارات في ذلك ما قاله ابن القيم: (الاجتهاد حالة)”( ).

ثانيا- تغليب روح التيسير والتخفيف على التشديد والتعسير:

فالدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، والتشديد يجيده كل أحد، وإنما العلم رخصة من ثقة، وبهذا تضافرت الأدلة من القرآن والسنة، والتيسير مبدأ أصيل في الشريعة الإسلامية، ومقصد أعلى من مقاصد التشريع الإسلامي؛ فما من حكم من الأحكام الشرعية العملية إلا والتيسير لحمته وسداه، والذي يتأمل التشريع الإسلامي يوقن بهذه الحقيقة يقينا لا يخالطه شك ولا ريب، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: “ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولا ييسر آمِرٌ على مأموريه ويرفع عنهم ما لا يطيقونه إلا والله تعالى أعظم تيسيرا على مأموريه وأعظم رفعا لما لا يطيقونه عنهم، وكل من تدبر الشرائع لا سيما شريعة محمد – صلى الله عليه وسلم – وجد هذا فيها أظهر من الشمس”( ).

وقد دلَّتْ النصوص من الكتاب والسُّنَّة أن التيسير والتخفيف أَحَبُّ إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

يقول الله تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُم اليُسْرَ ولا يُريدُ بِكُم العُسْرَ)( ).

ويقول سبحانه: (يُريدُ الُله أن يُخَفِّفَ عَنْكم وخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا)( ).

ويقول عز وجل: (ما يُريدُ اللهُ لِيَجعلَ عَليْكُم مِّنْ حَرَجٍ)( ).

ويقول الرسول الكريم: “خَيرُ دينِكم أَيْسرُه”( ).

وتقول عائشة: “ما خُيِّرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلاَّ أَخَذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإذا كان إثمًا كان أبعد الناس عنه”( ).

ويقول -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يَكره أن تُؤْتَى معصيته”( ).

ويتأكد ترجيح الرُّخْصة واختيار التيسير إذا ظهرت الحاجة إليها؛ لضعف أو مرض أو شيخوخة أو لشدَّة مَشَقَّة، أو غير ذلك من المُرَجِّحات.

روى جابر بن عبد الله قال: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر؛ فرأى زحامًا ورجلا قد ظُلِّل عليه، فقال: (ما هذا؟)، فقالوا: صائم، فقال: (ليس من البِرِّ الصيام في السَّفَر)”( ). أما إذا لم يكن في السفر مثل هذه المشقة فيجوز له أن يصوم، بدليل ما رَوَتْه عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: “أأصوم في السفر؟”، وكان كثير الصيام، فقال: “إن شئتَ فصُمْ، وإن شِئْتَ فأفطِرْ”( ).

وكان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول بشأن الصوم والفِطْر للمسافر، واختلاف الفقهاء: أيهما أفضل، كان يقول: أفضلهما أيسرهما عليه وهذا قول مقبول، فمِنَ الناس مَن يكون الصوم مع الناس أهون عليه من أن يَقضي بعد ذلك والناس مُفطِرون، وغيره بعكسه، فما كان أيسر عليه فهو الأفضل في حَقِّه.

ودعا -عليه الصلاة والسلام- إلى تعجيل الفُطور وتأخير السحور، تيسيرًا على الصائم.

ونجد كثيرًا من الفقهاء في بعض الأحكام التي تختلف فيها الأنظار يُرَجِّحون منها ما يكون أيسر على الناس، وخصوصًا في أبواب المعاملات، وقد اشتهرتْ عنهم هذه العبارة: “هذا القول أرفق بالناس”!( ).

ثالثا- مخاطبة الناس بلغة عصرهم التي يفهمون، متجنبين وعورة المصطلحات الصعبة، وخشونة الألفاظ الغريبة، متوخين السهولة والدقة:

وقد جاء عن الإمام علي: “حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون. أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟”.

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (إبراهيم: 4).

ولكل عصر لسان أو لغة تميزه وتعبر عن وجهته؛ فلا بد لمن يريد التحدث إلى الناس في عصرنا أن يفهم لغتهم ويحدثهم بها.

ولا أعني باللغة مجرد ألفاظ يعبر بها قوم عن أغراضهم، بل ما هو أعمق من ذلك، مما يتصل بخصائص التفكير، وطرائق الفهم والإفهام.

ولغة عصرنا تتطلب عدة أشياء، يجب على المفتي أن يراعيها:

( أ ) أن يعتمد على مخاطبة العقول بالمنطق، لا على إثارة العواطف بالمبالغات؛ فمعجزة الإسلام الكبرى معجزة عقلية هي القرآن الذي تحدى الله به، ولم يتحد بالخوارق مع وقوعها للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولم تعرف البشرية دينًا يحترم العقل والعلم كما يحترمه الإسلام.

( ب ) أن يدع التكلف والتقعر في استخدام العبارات والأساليب؛ حيث إن جمهور المستفتين ليسوا في مستوى واحد من الثقافة والفكر؛ فمنهم الأستاذ الكبير، ومنهم الطالب الصغير، ومنهم التاجر، ومنهم العامل، وكلهم يجب أن يفهم ويعي، وإفهام المستويات المتفاوتة أمر صعب.

(ج-) أن يذكر الحكم مقرونًا بحكمته وعلته، مربوطًا بالفلسفة العامة للإسلام؛ وذلك لأمرين:

الأول: أن هذه هي طريقة القرآن والسنة.

فالقرآن حين يفتي في المحيض -وقد سألوا عنه- يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222).

 فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبين لهم أن علة الحكم -وهو الأذى- مقدمة للحكم نفسه، وهو الاعتزال.

وفي تقسيم الفيء بيّن الفئات المستحقة له، ومنهم اليتامى والمساكين وابن السبيل، يذكر الله تعالى الحكمة في ذلك فيقول: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر: 7).

 أي حتى لا يكون المال متداولا بين طبقة الأغنياء وحدهم، ويحرم منه سائر الطبقات؛ فهذا مصدر الشرور، وهو أبرز خصائص الرأسمالية الطاغية.

حتى العبادات الشعائرية يأمر بها القرآن مقرونة بعلل وأحكام تقبلها الفطر السليمة، والعقول الرشيدة( ).

رابعا- الإعراض عما لا ينفع الناس:

فأسئلة الناس لا تنتهي، وكثير منهم يسأل مسائل أصبحت في ذمة التاريخ، ولم يعد لها وجود في الواقع الآن؛ فربما ينغمس الناس في المعاصي إلى آذانهم، ولا يسألون عنها، ويسألون عن التافه من الأمور التي لا صلة لهم بواقعهم ولا مستقبلهم، ومن بين هذه المسائل الألغاز الفقهية التي ربما تكون لها فائدة لتدريب طلاب العلم لكنها لا تفيد السائل العادي الذي يريد فتوى لمسألة واقعة بالفعل.

أما الأسئلة التي يريد بها أصحابها المراء والجدل، أو التعالم والتفاصح، أو امتحان المفتي وتعجيزه، أو الخوض فيما لا يحسنونه، وإثارة الأحقاد والفتن بين الناس، أو نحو ذلك؛ فلا تدخل في مجال الفتوى التي يحتاج إليها الناس. ومما قاله في ذلك الإمام شهاب الدين القرافي:

“ينبغي للمفتي إذا جاءته فتيا في شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو فيما يتعلق بالربوبية، يسأل فيها عن أمور لا تصلح لذلك السائل لكونه من العوام الجُلف، أو يسأل عن المعضلات، ودقائق الديانات، ومتشابه الآيات والأمور التي لا يخوض فيها إلا كبار العلماء، ويعلم أن الباعث له على ذلك إنما هو الفراغ والفضول والتصدي لما لا يصلح له، فلا يجيبه أصلا. ويظهر له الإنكار على مثل هذا، ويقول له: اشتغل بما يعنيك من السؤال عن صلاتك وأمور معاملاتك، ولا تخُض فيما عساه يهلكك، لعدم استعدادك له.

وإن كان الباعث له شبهة عرضت له؛ فينبغي أن يقبل عليه، ويتلطف به في إزالتها عنه بما يصل إليه عقله؛ فهداية الخلق فرض على من سُئل.

قال: والأحسن أن يكون البيان له باللفظ دون الكتابة؛ فإن اللسان يُفهِم ما لا يُفهِم القلم؛ لأنه حي، والقلم موات. فإن الخلق عباد الله، وأقربهم إليه أنفعهم لعباده، ولا سيما في أمر الدين وما يرجع إلى العقائد”( ).

خامسا- الاعتدال بين المتحللين والمتزمتين:

وقد سبق أن قدمنا بأننا نختار المنهج الوسطي في تقديم الفتوى والتزام روح التوسط دائمًا، والاعتدال بين التفريط والإفراط.. بين الذين يريدون أن يتحللوا من عرى الأحكام الثابتة بدعوى مسايرة التطور من المتعبدين بكل جديد، والذين يريدون أن يظل كل ما كان على ما كان من الفتاوى والأقاويل والاعتبارات، تقديسًا منهم لكل قديم

يقول الإمام ابن القيم:

“لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا مما يعلم أن الأمر فيه كذلك، مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهته.

وأما ما وجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده دينه، فليس له أن يشهد على الله ورسوله به، ويقرّ الناس بذلك، ولا علم له بحكم الله ورسوله.

قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، أو حرم الله كذا، فيقول الله له: كذبت. لم أحل كذا، ولم أحرمه.

وثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا حاصرت حصنًا فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله، فلا تنزلهم على حكم الله ورسوله؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟ ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك)”( ).

ويقول الإمام مالك:

“لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا الذين يقتدى بهم، ويعول الإسلام عليهم أن يقولوا: هذا حلال، وهذا حرام، ولكن يقول: أنا أكره كذا، وأحب كذا. وأما حلال وحرام فهذا الافتراء على الله، أما سمعت قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ…} الآية؛ لأن الحلال ما أحلّه الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله”( ).

سادسا- إعطاء الفتوى حقها من الشرح والإيضاح:

وعندنا الفتاوى قسمان:  قسم يرسل من خلال الفتاوى المباشرة التي يفتي فيه المفتي من الذاكرة دون بحث ولا تدقيق ولا توثيق؛ لأنها فتاوى مباشرة ينتظرها المستفتي في نفس الوقت الذي يرسلها فيه، وهذه نكتفي فيها ببيان الحكم الشرعي دون الدخول في التفاصيل والتدليل، وغالبا ما تكون مسائل مطروقة بسيطة غير معقدة.

أما القسم الثاني فهول الذي يرسل عبر الموقع، وتكون الإجابة عنها خلال عدة أيام، وهذا لا بد فيه من التوضيح والتفصيل وذكر الآراء الفقهية المعتبرة والترجيح بينها.

ويقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:

“والحق أني أعتبر نفسي عند إجابة السائلين مفتيًا، ومعلمًا، ومصلحًا، وطبيبًا، ومرشدًا.

وهذا يقتضي أن أبسط بعض الإجابات وأوسعها شرحًا وتحليلا، حتى يتعلم الجاهل، ويتنبه الغافل، ويقتنع المتشكك، ويثبت المتردد، وينهزم المكابر، ويزداد العالم علمًا، والمؤمن إيمانًا.

ولا بأس أن أسجل أهم الخطوات التي كنت أتبعها في الشرح والبيان. وقد أشرت إلى بعضها فيما سبق:

( أ ) أن الفتوى لا معنى لها إذا لم يذكر معها دليلها، بل جمال الفتوى وروحها الدليل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد يحوج الأمر إلى مناقشة أدلة المخالفين عند اللزوم في المسائل الهامة ليسلم ذهن السائل من تشويش المعارضات.

( ب ) ثم إن ذكر الحكمة والعلة أمر لا يستغنى عنه، وخصوصًا في عصرنا، كما بيّنا ذلك من قبل. وإلقاء الفتوى ساذجة مجردة من حكمة التشريع، وسر التحليل والتحريم يجعلها جافة، غير مستساغة لدى كثير من العقول، بخلاف ما إذا عرفت سرها وعلة حكمها، وقد قيل: إذا عرف السبب بطل العجب.

( ج ) ومما أجده نافعًا في أحوال كثيرة: المقارنة أو الموازنة بين موقف الإسلام في القضية المسئول عنها، وموقف غيره من الأديان أو المذاهب والفلسفات.

( د ) ومن خطتي كذلك التمهيد للحكم المستغرب بما يجعله مقبولا لدى السائلين، وقد ذكر ابن القيم أن الحكم إذا كان مما لم تألفه النفوس، وإنما ألفت خلافه؛ فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما يكون مؤذنًا به، كالدليل عليه، والمقدمة بين يديه( ).

 ( هـ ) ومما يحتاج إليه المفتي كثيرًا ربط الحكم المسئول عنه بغيره من أحكام الإسلام؛ حتى تتضح عدالته، وتتبين روعته؛ فإن أخذ الحكم منفصلا عن غيره قد لا يعطي الصورة المضيئة لعدل الإسلام، ومحاسن شرعه.

( و ) وقد يحتاج المفتي في بعض الأحيان إلى ترك الإجابة عن سؤال السائل؛ لعدم أهميته.. مثل سؤال بعضهم عن القرآن: أهو مخلوق أم غير مخلوق؟.

فهذا سؤال لا وزن له في هذا العصر، ولا حاجة إلى إثارته، وقد مضى زمن أصاب المسلمين من ورائه شر مستطير، ومحنة عظيمة وأوذي فيها علماء المسلمين وخيارهم، وعلى رأسهم إمام السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه.

فإحياء هذه المشكلة التاريخية لا معنى له، ولا جدوى منه، إلا إهدار الطاقات الفكرية للأمة في جدل بيزنطي كما يقولون.

فكان الأولى بالسائل عن هذا أن يسأل عن وجه إعجاز القرآن -مثلا- ليقنع غير المسلمين بأنه من عند الله، وأنه تنزيل من حكيم حميد.

أو يسأل عن بعض قصص القرآن، ليأخذ منها العظة، ويلتمس العبرة والذكرى له، ولكل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.

أو يسأل عن شيء من أحكام القرآن وتشريعه، ليرى فيه عدل الله بين عباده، ورحمته {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50)”( ).

سابعا- المعالجة النفسية للسائل حتى لا يتلقى أوامر الله بجفاء وغلظة:

  فلا بد من هذه المعالجة النفسية للمستفتي؛ فلا يقف دور المفتي عند التحريم والتحليل فقط، ولسان حاله يقول للناس: (هذا هو الدين؛ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)! ولكن لا بد من التذكير ببركة اتباع الحلال والوقوف عند حرمات الله فلا يقترب منها ولا يتعداها، وليعلم أنه ما ترك شيئا لله إلا أبدله الله خيرا منه، وأن رزقه قد كتب وهو في بطن أمه كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يأمر الله الملك بكتابة رزقه وأجله وشقي أم سعيد.

إن دائرة الحلال قد ضاقت على الناس في هذا الوقت، والأصل فيها أنها متسعة كما أرادها الله. ودائرة الحرام قد اتسعت، والأصل فيها أنها ضيقة كما أرادها الله. ولكن الإنسان عبث في هذه الموازين، وقلب هذه الفطرة فأصبح الشاب الذي يتخرج في الجامعة أمامه أكثر من فرصة للعمل في الحرام، ولا يكاد يجد فرصة واحدة للعمل في الحلال، فهو يسأل عن العمل في البنوك الربوية والفنادق السياحية التي تقدم الخمور والقمار والميسر ووسائل الإعلام الماجنة والقروض الربوية المحرمة وغير ذلك الكثير، وكلما لاحت أمامه فرصة للخروج من طابور العاطلين إذا به يصطدم بالشرع حيث لا يجيز له العمل في هذه الأماكن؛ لأن الشريعة كلما حرمت شيئا سدت جميع النوافذ الموصلة إليه.

والمفتي مطالب تجاه هؤلاء الشباب أن يمهد لهذا كله بزرع الثقة في الله في قلوب المستفتين حتى لا ينفروا من الشرع، ويقدِموا على الحرام، خاصة أنه في كثير من الأوقات لا يستطيع أن يقدم البديل الشرعي المناسب؛ لأن هذا البديل ترفضه الأنظمة والقوانين التي يعيش فيها السائل؛ فكل البنوك الربوية بغير استثناء لا تعرف في قوانينها ولا أنظمتها المرابحة ولا المشاركة ولا المضاربة ولا غيرها من البدائل الشرعية للقرض الربوي، وبالتالي فذكر هذه البدائل عبث الآن في أنظمة لا تأخذ بها ولا تعترف بأهميتها، وبالتالي فإن عجزنا على أن نقدم له البديل الحلال فلا أقل من أن نحثه على الصبر والأخذ بالعزيمة حتى يجعل الله له من بعد عسر يسرا.

ثامنا- البحث عن البديل الحلال ما أمكن فلا نكتفي بأن نحرم على الناس ما يسألون عنه ولكننا نبين لهم البديل الحلال ما أمكن:

ودائرة الحلال في الفقه الإسلامي أوسع وأرحب بكثير من دائرة الحرام؛ إذ الأصل في الأشياء الإباحة، ومن آداب المفتي البحث عن البديل الحلال ليقدمه بعد الحكم بالتحريم حتى يذهب الحرج عن الناس ويذهب عنهم العنت والمشقة؛ فمن الفتاوى ما يحرّم على المستفتى أمرًا كان يظن إباحته، أو يريدها ويتمناها لحاجة إليه، أو تعلقه به؛ فينبغي هنا أن يدل على البديل الحلال، مادمنا قد سددنا في وجهه طريق الحرام. وما من شيء حرمه الله إلا وفيما أحله ما يغني عنه.

فمن سألنا عن إيداع المال في المصارف (البنوك) بالفوائد الربوية منعناه منها حتى لا يأذن بحرب من الله ورسوله، ودللناه على المضاربة المشروعة، وهي أن يشترك اثنان أو جماعة في تجارة أو صناعة، بعضهم بالمال، وبعضهم بالخبرة والجهد، ويتقاسمون الربح أو الخسارة على حسب ما يتفقون.

ومن سأل عن الاستخارة بفتح الكتاب، أو الخط على الرمل، أو نحو ذلك.. بيّنا له حرمته، ودللناه على الاستخارة الشرعية، وهي صلاة ركعتين، يعقبها بالدعاء المأثور المعروف.

ومن سأل عن صيام يوم الجمعة بيّنا له كراهة إفراده، ودللناه على استحباب صوم يومي الاثنين والخميس، أو الثلاثة الأيام البيض من كل شهر.

ومن سأل عن صرف الزكاة في بناء مسجد في بلاد عامرة بالمساجد، بيّنا له الحكم ودللناه على مصارف أهم منه للأمة؛ مثل: نشر الدعوة الإسلامية، والوعي الإسلامي ومقاومة المخططات الصليبية واليهودية والشيوعية لطرد الإسلام من الحياة. فهذا هو مصرف (في سبيل الله) في عصرنا، وهكذا حين نحرم شيئًا أو نمنع من شيء، ندل على بديل مثله أو خير منه.

وما حرم الله شيئًا يضطر الناس إليه، أو يحتاجون إليه حاجة حقيقية، بل لو اضطروا إلى الحرام لعاد حلالا، فإنما أحل الله الطيبات وحرم الخبائث.

ولهذا لا يوجد حرام ممنوع إلا وله في الواقع بديل مباح بيقين.

وهذا ما ينبغي للمفتي أن يرشد إليه ويدل عليه؛ فذلك من فقهه ونصحه، قال العلامة ابن القيم: “وهذا لا يأتي إلا من عالم ناصح مشفق، قد تاجر الله، وعامله بعلمه؛ فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء، يحمي العليل عما يضره، ويصف له ما ينفعه؛ فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان”( ).

وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم”.

وهذا شأن خلفاء الرسل وورثتهم من بعدهم، وكان شيخ الإسلام يتحرى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرًا فيها.

وقد منع النبي -صلى الله عليه وسلم- بلالا أن يشتري صاعًا من التمر الجيد بصاعين من الرديء -سدًا للذريعة إلى الربا في أي صورة من صوره- ثم أمره أن يبيع الرديء الذي عنده بالدراهم، ثم يشتري بالدراهم الجيد الذي يريده؛ فمنعه من المحظور، وأرشده إلى المباح.

4-         آداب وشروط المفتي والمستفتي:

(أ) آداب وشروط المفتي:

– أن تكون له نية: فإن لم تكن له نية، لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور، وأن يخلص بهذا العمل لله، يقول الإمام النووي -رحمه الله-: قالوا:‏ “وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع، مشهورا بالديانة الظاهرة،‏ والصيانة الباهرة.‏

وكان مالك ‏-‏رحمه الله‏-‏ يعمل بما لا يلزمه الناس،‏ ويقول:‏ لا يكون عالما حتى يعمل في خاصَّةِ نفسه بما لا يلزمه الناس مما لو تركه لم يأثم”. وكان يحكي نحوه عن شيخه ربيعة‏( ).

– أن يشعر بالافتقار إلى الله تعالى: وصدق التوجه إليه، وأن يقف على بابه متضرعا، داعيا أن يوفقه للصواب، ويجنبه زلل الفكر واللسان والقلم، ويحفظه من اتباع الهوى.

يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: “ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد إلى ملهم الصواب، ومعلم الخير، وهادي القلوب أن يلهمه الصواب، ويفتح له طريق السداد، ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة؛ فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر من أمّل فضل ربه أن لا يحرمه إياه. فإذا وجد في قلبه هذه الهمة فهي طلائع بشرى التوفيق؛ فعليه أن يوجه وجهه ويحدق نظره إلى منبع الهدى، ومعدن الصواب، ومطلع الرشد؛ وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة؛ فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله، فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ لك النور أو تكاد، ولا بد أن تضعفه، وشهدتُ شيخ الإسلام -ابن تيمية- قدس الله روحه إذا أعيته المسائل واستصعب عليه، فرّ منها إلى التوبة والاستغفار والاستغاثة بالله واللجوء إليه، واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته؛ فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن من وُفق هذا الافتقار علما وحالا، وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد؛ فقد أُعطي حظه من التوفيق، ومن حُرمه فقد مُنع الطريق والرفيق؛ فمتى أُعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم( ).

 –  أن يحيل سائله إلى من هو أعلم منه بموضوع الفتوى، ولا يجد في ذلك حرجا في صدره؛ فقد فعل ذلك معظم أئمة الدين.

–  أن يسأل هو إخوانه من أهل العلم ويشاورهم: ليزداد استيثاقا واطمئنانا إلى الأمر، كما كان يفعل عمر؛ حيث يجمع علماء الصحابة ويشاورهم؛ بل كان يطلب رأي صغار السن فيهم مثل عبد الله بن عباس، الذي قال له مرة: تكلم ولا يمنعك حداثة سنك.

– أن يرجع عن الخطأ إذا تبين له: فالرجوع إلى الحق خير له من التمادي في الباطل، ولا إثم عليه في خطئه؛ لأنه مأجور عليه، وإنما يأثم إذا عرفه ثم أصر عليه عنادا وكبرا، أو خجلا من الناس، والله لا يستحيي من الحق.

– أن يفتي بما يعلم أنه الحق ويصر عليه: ولو أغضب من أغضب من أهل الدنيا، وأصحاب السلطان، وحسبه أن يرضي الله تبارك وتعالى.

–  أن يكون له حلم ووقار وسكينة.

– أن يكون على قدر كبير من العلم بالإسلام: والإحاطة بأدلة الأحكام، والدراية بعلوم العربية، مع البصيرة والمعرفة بالحياة وبالناس أيضا بالإضافة إلى ملكة الفقه والاستنباط.

– أن تكون له صلة وثيقة وخبرة عميقة بالقرآن الكريم: حفظا، وتلاوة، وفهما وتدبرا، وأن يلم بعلوم القرآن وعلوم السنة المطهرة.

– أن تكون له ملكة في فهم لغة العرب وتذوقها: ومعرفة علومها وآدابها حتى يقدر على فهم القرآن والحديث.

– أن يكون متمرسا بأقوال الفقهاء: ليعرف منها مدارك الأحكام، وطرائق الاستنباط، ويعرف منها كذلك مواضع الإجماع ومواقع الخلاف، وأن يكون معايشا للفقهاء في كتبهم وأقوالهم، ويطلع على اختلافهم، وتعدد مداركهم، وتنوع مشاربهم، ولهذا قالوا: “من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه”.

 – أن يكون عالما بالفقه وأصوله، ومعرفة القياس والعلة، ومتى يستعمل القياس، ومتى لا يجوز( ).

ونستطيع أن نضيف إلى ذلك بعض الآداب للمفتي الذي يفتي الناس عبر وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت والإذاعة والتلفاز ما يلي:

– أن يكون عالما بواقع الناس، مدركا لمشكلاتهم الاجتماعية والنفسية.

– معرفة الواقع بكل تشابكاته السياسية والاقتصادية المحلية والدولية، وأن يكون له مستشارون أمناء متخصصون في هذه الجوانب يرجع إليهم لمعرفة الواقع قبل أن يفتي فيه.

– التوقف في المسائل التي يكون فيه تنازع بين الأطراف حتى يسمع من الطرفين معا كمسائل الطلاق مثلا أو ينص في الإجابة على أن السائل يسأل عن كذا فإن كان ما يقوله صحيحا فالإجابة كذا.

– معرفة وسائل الاتصالات الحديثة كالإنترنت وكيفية توقيع العقود عليها مثل البيع والشراء، والزواج والطلاق، وغير ذلك من المعاملات الحديثة؛ حتى يتصور المسائلة تصورا دقيقا؛ حيث إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

– معرفة قرارات المجامع الفقهية المعتبرة، وعدم الخروج عليها إلا بدليل قوي، بخاصة في الفتاوى التي تهم الأمة.

– معرفة خصوصية الفتوى عبر الإنترنت؛ حيث إن شخصية السائل مجهولة، ومكانه أيضا ربما يكون مجهولا أو مجهّلا، وكذا سنه وجنسه؛ فلا بد من وضع هذه الاعتبارات جميعا، وكذلك الفتوى الخاصة قد تتحول إلى عامة؛ حيث يقوم المستفتي بنشرها بشتى الطرق المتاحة لديه.

(2) آداب المستفتي

–  أن يُحسن صياغة السؤال: ولا يخفي من ملابساته شيئا، حتى يأتي حكم المفتي موافقا لحكم الحادثة، فإنما مثل المستفتي مع المفتي كمثل الطبيب مع المريض.

–  السؤال عما ينفع: يجب عليه أن يحسن السؤال؛ فحسن السؤال نصف العلم، كما هو مأثور، وتطبيقا لهذا المعنى يجب أن يكون سؤاله عما ينفع، أي يسأل في واقعة يعانيها هو أو غيره ويريد الحكم فيها، ولا يسأل فيما هو مفترض بعيد الوقوع؛ فهذا من “أغاليط المسائل” التي جاء الحديث بالنهي عنها.

– أن يستفتي أهل العلم: لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43)، وأهل الذكر هم العلماء الفقهاء الذين يعرفون أحكام الشرع، ويعرفون وقائع الناس، وينزلون أحكام الشرع على تلك الوقائع،  وأن يختار من أهل العلم أكثرهم ورعا وأشدهم تقوى؛ فإن تعددوا اختار من بينهم، وإلا فمن تيسر.

– يجب على المستفتى أن يبين عن مسألته والظروف التي تكتنفها: لأن الفتوى تتغير بذلك، من غير تمويه أو مواربة، وأن لا يُخفي شيئا مما يتعلق بمسألته حتى يكون الحكم منزلا على عين الحقيقة الواقعة.

– الاختصار في عرض الفتوى: أن يراعي المستفتى أن من يتعرض للإجابة عن مسألته مطلوب منه أن يجيب على كثير من مسائل غيره؛ ولذا يجب عليه أن يختصر في مسألته من غير إخلال بوقائعها؛ حتى لا يضيع على غيره الوقوف على وجه الحق فيما يريد السؤال عنه.

– عدم عرض الفتوى أكثر من مرة على أكثر من عالم أو جهة بقصد الحصول على ما يريد: وينبغي لمن يتبع هذا الأسلوب من المستفتين أن يعلم بأنه أمين في نهاية الأمر على دينه وعلى حقيقة ما يسأل عنه، وأن يعلم أن الله تعالى لا يخدعه أحد.

– لا يجوز للمستفتى بحال أن يتعرض لغيره بالهمز أو اللمز من خلال ما يسأل عنه:  كما لا يجوز له أن يذكر أسماء أحد (بشكل تفصيلي كأن يذكر الاسم كاملا وعنوانه ووظيفته مثلا) في سؤاله، سواء كان هؤلاء أناسا كان لهم موقف معه، أو مفتين أجابوه قبل ذلك.

–  استفتاء القلب: على المستفتي أن يتقي الله ويراقبه في استفتائه إذا استفتى، ولا يجعل الفتوى ذريعة إلى أمر يعلم من قرارة نفسه أنه غير جائز شرعا، وإنما لبّس على المفتي وغرّه بزخرف القول، أو بإخفاء عنصر له تأثير في تكييف القضية المسئول عنها؛ فيجيب المفتي بما يظهر له، غير متفطن إلى خبايا الموضوع وخلفياته. ولو عرضت عليه القضية بوضوح، لا تلبيس فيه ولا تمويه، وظهر له من خباياها ما أخفي عنه، لغير فتواه.

 – تبين الفتوى بكل تفاصيلها وقيودها: على المستفتي بعد ذلك أن يتفحص فتوى مفتيه تمام التفحص، ويتبين ما فيها من قيود وشروط تمام التبين، ثم يطبق ذلك على نفسه وحاله. فلا يخطف الجواب خطفا، قبل أن يتأمل أوائله وأواخره، وما يحمل في طيه من قيود أو أوصاف قد لا تنطبق على قضيته عند التطبيق، وقد يجيب المفتي بكلام عام، ثم ينبه في أثناء فتواه أو على آخرها على قيد أو شرط، أو يستدرك كلامه الأول؛ فيقيد مطلقه، أو يخصص عمومه، أو يفصل مجمله.

وهذا أمر في غاية الأهمية فكثيرا ما يسمع المستفتي فتوى الشيخ القرضاوي مثلا أو غيره في الغناء مثلا، فيخرج بنتيجة خاطئة تقول: (إن القرضاوي يبيح الغناء)! هكذا بإطلاقه، ويطلق لنفسه العِنان في استماع الغناء بغير ضابط ولا رابط.

مع أن فتوى فضيلة الشيخ واضحة، وقد وضعت الضوابط في السماع بشكل واضح لا يحتمل لبسا؛ فيكون المفتي بريئا من تصرفات الناس الخاطئة التي تقف عند (ولا تقربوا الصلاة)!.

وكذلك فتواه في شراء البيوت في بلاد الغرب عن طريق البنوك يخرج السامع أو القارئ بنتيجة أن القرضاوي يبيح التعامل مع البنوك!!.

وعشرات المسائل غيرها، وما يحدث مع فضيلة الشيخ يحدث مع غيره، خاصة العلماء الذين يسمع لقولهم ويرتاح الناس لفتواهم في العالم العربي والإسلامي.

–  طلب العلم: إن على المسلم أن يتفقه في دينه، ويتعلم من أحكامه ما ينفعه، وما يسير به في طريق سوي، حتى لا تختلط عليه الأمور، ويلتبس عليه الحق بالباطل والحلال بالحرام.

ولهذا جاء في الحديث: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” والمراد: كل إنسان مسلم، ذكرا كان أو أنثى؛ فالمسلمة كالمسلم في طلب العلم بالإجماع، وإن لم يرد في الحديث لفظ “مسلمة”.

 –  أن يتقي الله ويراقبه في فتواه: فيسأل ليعمل بحكم الشرع، ولا يسأل ليتذرع بالفتوى لارتكاب ما حرم الله؛ لأن المفتي كالقاضي يحكم بناء على ما ظهر له، وحكمه لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالا( ).

5-         ضوابط الإفتاء في قضايا النوازل:

لا بد للإفتاء بصفة عامة والإفتاء في قضايا النوازل بصفة خاصة من آداب وضوابط، وهذه الضوابط بعضها مشترك بين قضايا النوازل وغيرها، وبعضها خاص بقضايا النوازل، وقد ذكرنا بعض هذه الضوابط في أثناء حديثنا عن منهج الموقع في تقديم الفتوى، وعن ضوابط وآداب واجبة على المفتي والمستفتي، وسنذكر هنا الضوابط التي تفيد في قضايا النوازل وإن كانت مهمة أيضا للإفتاء بصفة عامة:

   أولا- التأكد من وقوعها:

بعد انتشار وسائل الاتصال الحديثة أصبح التواصل بين المفتي والمستفتي أمرا ميسورا؛ فيستطيع المستفتي أن يسأل من شاء عن أي شيء شاء في أي وقت أراد، ويستطيع أن يختار من يستفتيه مهما بعدت المسافات، وهذا وإن كان ميزة في كثير من الحالات، غير أنه يعتريه بعض المثالب والعيوب؛ فكثير من الناس يشغل باله بمسائل مستحيلة الحدوث أو قليلة الجدوى أو يطلق لخياله العنان لأشياء بعيدة عن الواقع، ثم يسأل عنها أهل الفتوى؛ حيث إن الأمر لا يكلفه كثيرا ولا قليلا.

ولا أنسى منذ عدة سنوات أن نشرت إحدى المجلات المستهترة بعقول وأوقات الناس خبرا مفاده أن رجلا من الخليج حمل نيابة عن زوجه التي أخبرها الأطباء باستحالة حملها؛ نظرا لمرض خِلقي أثر على الرحم، ومن فرط حب هذا الرجل قَبِل أن يحمل عن امرأته، فأتى الأطباء بييضة من المرأة وتم زرعها في جدار المعدة عند زوجها، وقد نما الجنين والرجل على وشك الولادة!!.

فإن سألت: “لماذا لم يتم زرع هذا الجنين في جدار معدة المرأة؟”، كانت الإجابة جاهزة وهي أنها تعاني من عدة أمراض، ولا تتحمل أعباء الحمل والولادة!!.

ثم هرع الناس يسألون: هل هذا جائز شرعا أم لا؟؟ وما الآثار والأحكام التي تترتب على هذا؟؟ وتوقفنا عن الإجابة عن هذا السؤال في الفتوى إجلالا لهذا المنصب واحتراما له من هذا العبث، وانشغل به آخرون في مساحات أخرى تحتمل طرح مثل هذه الأفكار.

وكنا نظن أن أهل الذكر من الأطباء سيغنوننا عن الخوض في هذا الهراء لكنهم للأسف أفتى بعضهم بأن هذا ممكن عقلا وإن لم يروه بأعينهم، وأن التقدم العلمي ربما يكون قد وصل لشيء من هذا، وأخذوا يعددون الأمراض والتشوهات التي تلحق بهذا الرجل الذي سيتحول إلى مسخ فلا هو بالرجل ولا بالمرأة!!.

وكان لا بد بعد أن أفتي أهل الذكر بأن هذا ليس مستحيلا أن نقول كلمة الشرع في هذا، وكان الكلام فيها مقتضبا مختصرا بناء على ما أفتي به الأطباء المتخصصون من الضرر الذي سيقع على الرجل من جراء هذا الحمل الكاذب؛ فإنه لا ضرر ولا ضرار، ولا يجوز للرجل أن يحمل نيابة عن زوجه، وله في الزواج من أخرى عوض عن هذا العبث، وبعد أكثر من شهر تخرج علينا هذه المجلة المستهترة لتقول: “إن الشهر الماضي كان شهر إبريل، وهذه كذبة إبريل؛ فلا حمل الرجل ولا ولد”!!.

بهذه البساطة تتحدث وسائل الصحافة والإعلام، ولم تفقد المجلة الكاذبة مصداقيتها، ولم يقاطعها الناس لتغلق أبوابها وتكون عبرة لمن يلهو ويلعب بأوقات الآخرين، إنه الفراغ الذي حل بكثير من المسلمين، فانصرفوا عن الجد إلى الهزل، ومن الحق إلى الباطل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فعلى المفتي أن يتريث ويسأل: هل وقع هذا أم لم يقع؟ وإن كان لم يقع فهل من الممكن حدوثه حتى يكون التفكير فيه من باب استشراف المستقبل، أم أن الأمر ما زال في طور الخيال العلمي؟.

ويؤيد ذلك ما جاء عن سلفنا الصالح من كراهية السؤال عمَّا لم يقع، وامتناعهم عن الإفتاء فيها، وبعضهم ذهب إلى التشديد في ذلك والنهي عنه.

ويروى عن الصحابة في ذلك آثار كثيرة، منها:

– أن رجلا جاء إلى ابن عمر -رضي الله عنهما- فسأله عن شيء؛ فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: “لا تسأل عما لم يكن؛ فإني سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يلعن من سأل عما لم يكن”.

– وكان زيد بن ثابت -رضي الله عنه- إذا سأله إنسان عن شيء قال: “آلله ! أكان هذا؟ فإن قال: نعم نظر، وإلا لم يتكلم”.

– وعن مسروق قال: كنت أمشي مع أبي بن كعب -رضي الله عنه- فقال فتى: ما تقول يا عماه في كذا وكذا؟؛ قال: يا ابن أخي أكان هذا؟ قال: لا، قال: فأعفنا حتى يكون”.

– ويروى عن عبد الملك بن مروان -رحمه الله- أنه سأل ابن شهاب -رحمه الله-، فقال له ابن شهاب: “أكان هذا بأمير المؤمنين؟” قال: “لا”، قال: “فدعه؛ فإنه إذا كان أتى الله عز وجل له بفرج”…

فهذه الآثار وغيرها كثير، تبين حرص الصحابة والتابعين على عدم الخوض في مسائل لم تقع، سواءً بالسؤال عنها أو بالجواب فيها؛ لأن النظر فيها لا ينفع، كما

هو معلوم عن الصحابة -رضي الله عنهم- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال فيهم ابن عباس -رضي الله عنهما-: “ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما سألوا إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، وما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم”.

ويوضح ابن القيم -رحمه الله- مقصد ابن عباس بقوله: “(ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة) المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبيّن لهم أحكامها في السنة لا تكاد تحصى، ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات، ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات وعضل المسائل، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها؛ بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به، فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه فأجابهم، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} (المائدة: 101 و102).

فعلى المجتهد أو المفتي في النوازل أن يتأكد من وقوع النازلة، ولا ينظر في المسائل الغريبة والنادرة أو المستبعدة الحصول، ولكن إذا كانت المسألة ولو لم تقع منصوصا عليها، أو كان حصولها متوقعا عقلا فتستحب الإجابة عنها والبحث فيها من أجل البيان والتوضيح ومعرفة حكمها إذا نزلت.

وفي هذا يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- بعد أن حكى امتناع السلف عن الإجابة فيما لم يقع: “والحق التفصيل.. فإذا كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نص ولا أثر؛ فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها.

وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم، ولا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك، ويعتبر بها نظائرها، ويفرع عليها؛ فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى”( ).

ثانيا- أن تكون النازلة من المسائل التي يسوغ النظر فيها:

للمجتهد أن يعرف ما يسوغ النظر فيه من المسائل وما لا يسوغ؛ وذلك لأن المجتهد قد يترك الاجتهاد في بعض المسائل التي لا يسوغ فيها النظر؛ لأن حكمها كحكم ما لم يقع من المسائل لعدم الفائدة والنفع من ورائها؛ فالضابط الذي ينبغي أن يراعيه المجتهد الناظر ألا يشغل نفسه وغيره من أهل العلم إلا بما ينفع الناس ويحتاجون إليه في واقع دينهم ودنياهم.

أما الأسئلة التي يريد بها أصحابها المراء والجدال أو التعالم والتفاصح أو امتحان المفتي وتعجيزه أو الخوض فيما لا يحسنه أهل العلم والنظر، أو نحو ذلك.. فهذه مما ينبغي للناظر أن لا يلقي لها بالا؛ لأنها تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني، وقد تفرق ولا تجمع.

وقد ورد النهي عن ذلك كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه “نهى عن الغلوطات”.(  )

قال الخطابي -رحمه الله- في هذا المعنى: “إنه نهي أن يُعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا ويسقط رأيهم فيها، وفيه كراهية التعمق والتكلف فيما لا حاجة للإنسان إليه من المسألة، ووجوب التوقف عما لا علم للمسئول به.

فشداد المسائل وصعابها مما لا نفع فيه ولا فائدة إلا إعنات المسئول لا شك أنه مذموم شرعا، ينبغي أن يحذر الفقيه أو الناظر من الانسياق الملهي خلف هذه المسائل، والانشغال بها عما هو أهم وأعظم، كذلك ينبغي للناظر أن لا يقحم نفسه ويجتهد في المسائل التي ورد بها النص إذ القاعدة فيها: (لا مساغ للاجتهاد في مورد النص).

والمقصود بهذه القاعدة -على وجه الإجمال- ما قاله الإمام الزركشي -رحمه الله- من أن “المجتهد فيه وهو كل حكم شرعي عملي أو علمي يقصد به العلم ليس فيه دليل قطعي”.

ويمكن من خلال النقاط التالية إبراز ما يسوغ للمجتهد أن ينظر فيه من النوازل بإجمالٍ:

1-أن تكون هذه المسألة المجتهد فيها غير منصوصٍ عليها بنصٍ قاطعٍ أو مجمع عليها.

2- أن يكون النص الوارد في هذه المسألة -إن ورد فيها نصٌ- محتملا قابلا للتأويل.

3- أن تكون المسألة مترددة بين طرفين وضح في كل واحدٍ منهما مقصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر.

4- أن لا تكون المسألة المجتهد فيها من مسائل أصول العقيدة والتوحيد أو في المتشابه من القرآن والسنة.

5- أن تكون المسألة المجتهد فيها من النوازل والوقائع، أو مما يمكن وقوعها في الغالب والحاجة إليها ماسة( ).

ثالثا- فهم النازلة فهما دقيقا:

إن فقه النوازل المعاصرة من أدق مسالك الفقه وأعوصها؛ حيث إن الناظر فيها يطرق موضوعات لم تطرق من قبل، ولم يرد فيها عن السلف قول؛ بل هي قضايا مستجدة، يغلب على معظمها طابع العصر الحديث المتميز بابتكار حلولٍ علمية لمشكلات متنوعة قديمة وحديثة، واستحداث وسائل جديدة لم تكن تخطر ببال البشر يوما من الدهر.

من هذا المنطلق كان لا بد للفقيه المجتهد من فهم النازلة فهما دقيقا، وتصورها تصورا صحيحا قبل البدء في بحث حكمها، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، وكم أُتِي الباحث أو العالم من جهة جهله بحقيقة الأمر الذي يتحدث فيه!! فالناس في واقعهم يعيشون أمرا، والباحث يتصور أمرا آخر ويحكم عليه.

فلا بد حينئذ من تفهم المسألة من جميع جوانبها، والتعرف إلى جميع أبعادها وظروفها وأصولها وفروعها ومصطلحاتها وغير ذلك مما له تأثير في الحكم فيها.

ولأهمية هذا الضابط جاء في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- ما يؤكد ضرورة الفهم الدقيق للواقعة حيث جاء فيه: “أما بعد.. فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة؛ فافهم إذا أُدليَ إليك؛ فإنه لا ينفع تكلم بالحق لا نفاذ له… ثم الفهمَ الفهمَ فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق”.

يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- معلقا وشارحا هذا الكتاب: “ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا… ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحةً بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله”( ).

وكثير من المسائل المعاصرة التي وقع فيها الخطأ كان نتيجة إغفال هذا الضابط، وقد أفتى بعض الفقهاء على جواز الاقتراض من البنوك بالفائدة المحددة سلفا؛ لأن هذا العقد عقد وكالة، وشتان شتان بين عقد الوكالة، وهذا العقد الذي ينص القانون أنه قرض، ولا صلة له بعقد الوكالة من قريب أو بعيد.

وأفتى بعضهم بجواز التأمين بكافة صوره وأشكاله؛ نظرا لما حسبه أنه من عقود التبرعات وهو ليس كذلك؛ بل من عقود المعاوضات التي لا يغتفر فيها الغرر ولا الجهالة ولو كانت يسيرة.

وليس المجال مجال حصر لتلك الفتاوى التي بنيت على أساس غير صحيح لتكييف الحادثة وفهمها فهما صحيحا.

رابعا- التثبت والتحري واستشارة أهل الاختصاص:

مما ينبغي أيضا للناظر أن يراعيه هنا زيادة التثبت والتحري للمسألة، وعدم الاستعجال في الحكم عليها، والتأني في نظره لها؛ فقد يطرأ ما يغير واقع المسألة أو يصل إليه علم ينافي حقيقتها وما يلزم منها، فإذا أفتى أو حكم من خلال نظرٍ قاصرٍ أو قلة بحثٍ وتثبتٍ وتروٍ؛ فقد يخطئ الصواب، ويقع في محذور يزل فيه خلق كثير.

وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يؤيد التثبت والتحري في الفتيا والاجتهاد؛ ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: “من أفتى بفتيا غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه”( ). وقال أيضا -عليه الصلاة والسلام-: “أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار”( ).

وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يُسأَل عن المسألة فيتفكر فيها شهرا، ثم يقول: “اللهم إن كان صوابا فمن عندك، وإن كان خطأ فمن ابن مسعود”.

وجاء عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه قال: “إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن”، وقال أيضا: “ربما وردت عليَّ المسألة فأفكر فيها ليالي”.

يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- في ذلك: “حقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعدّ له عدّته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به؛ فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب؟”( ).

وعلى المفتي في قضايا النوازل أن يسأل ويستشير أهل الاختصاص، خاصة في تلك المسائل المعقدة المتشابكة، وقد حدثت تطورات في المعاملات المالية المعاصرة توجب على المفتي أن يسأل المتخصصين في علم الاقتصاد والقانون وغير ذلك حتى يقف على حقيقة المسألة، ويتمكن من تكييفها ليُلحقها بأحد العقود، أو يرى أنها عقد مستحدث لا يمكن إلحاقه بأي عقد سالف، وعليه فلا بد أن يكون منضبطا بأحكام المعاملات العامة؛ فنحن نسمع عن عقود المرابحة للآمر بالشراء والمضاربة المشتركة والإجارة أو المشاركة المنتهية بالتمليك وسوق الأوراق المالية، والتسوق الشبكي أو الهرمي، والمسابقات الهاتفية أو التليفزيونية، وبطاقات الائتمان وغيرها، وهذا يتطلب معرفة بالواقع ومراجعة أهل الاختصاص.

خامسا- مراعاة مقاصد الشريعة:

المراد بالمقاصد الشرعية هي: المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها؛ بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة؛ فيدخل في هذا: أوصاف الشريعة وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضا معانٍ من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها.

وقد يراد بالمقاصد أيضا: الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد( ).

فهذه الأسرار والغايات التي وضعت الشريعة لأجلها من حفظ الضروريات وإصلاح لأحوال العباد في الدارين.. معرفتها ضرورية على الدوام ولكل الناس؛ فالمجتهد يحتاج إليها عند استنباط الأحكام وفهم النصوص، وغير المجتهد للتعرف على أسرار التشريع.

ولذلك كان الناظر في النوازل في أمسّ الحاجة إلى مراعاتها عند فهم النصوص لتطبيقها على الوقائع وإلحاق حكمها بالنوازل والمستجدات، وكذلك إذا أراد التوفيق بين الأدلة المتعارضة فإنه لا بد أن يستعين بمقصد الشرع، وإن دعته الحاجة إلى بيان حكم الله في مسألة مستجدة عن طريق القياس أو الاستصلاح أو الاستحسان أو العرف المعتبر تحرى بكل دقة أهداف الشريعة ومقاصدها.

 يقول الإمام البيضاوي -رحمه الله-: “إن الاستقراء دل على أن الله سبحانه شرع أحكامه لمصالح العباد”.

ويؤكد على ذلك الإمام ابن القيم -رحمه الله- وهو من المعتنين بذلك بقوله: “القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوءان من تعليل الأحكام والمصالح وتعليل الخلق بها، والتنبيه على وجوه الحِكم التي لأجلها شرع الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناهما، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة”.

فينبغي عندئذٍ أن يراعي الناظر في النوازل تحقيق المصالح في حكمه وفتواه حتى لا يخرج عن كليات الشريعة ومقاصدها العليا.

ومن مظاهر مراعاة المفتي لفقه المقاصد ما يلي:

أ – تحقيق المصلحة الشرعية عند النظر:

يقول الإمام الآمدي -رحمه الله-: “فلو لم تكن المصلحة المرسلة حجة أفضى ذلك أيضا إلى خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية لعدم وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها”.

وقد ذكر الأصوليون عدَة ضوابط من أجل تحقق المصلحة المعتبرة والعمل بها عند النظر والاجتهاد، وهي بإيجاز:

1- اندراج المصلحة ضمن مقاصد الشريعة.

2- أن لا تخالف نصوص الكتاب والسنة.

3- أن تكون المصلحة قطعية أو يغلب على الظن وجودها.

4- أن تكون المصلحة كلية.

5- ألا يفوت اعتبار المصلحة مصلحة أهم منها أو مساوية لها.

ب – اعتبار قاعدة رفع الحرج:

يقصد بالحرج: كل ما يؤدي إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال حالا و مآلا؛ فيكون المراد برفع الحرج: “التيسير على المكلفين بإبعاد المشقة عنهم في مخاطبتهم بتكاليف الشريعة الإسلامية”.

وقد دلت الأدلة على رفع الحرج من الكتاب والسنة حتى صار أصلا مقطوعا به في الشريعة.

وقد سبق بيان هذا عند الحديث عن التيسير في الفتوى، ولكن هناك شروط لا بد للناظر من تحقيقها عند اعتباره لقاعدة رفع الحرج فيما يعرض له من نوازل وواقعات، وهي:

1 – أن يكون الحرج حقيقيا، وهو ما له سبب معين واقع؛ كالمرض والسفر، أو ما تحقق بوجوده مشقة خارجة عن المعتاد، ومن ثمَّ فلا اعتبار بالحرج التوهمي وهو الذي لم يوجد السبب المرخص لأجله؛ إذ لا يصح أن يبني حكما على سبب لم يوجد بعد، كما أن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى قسم التوهمات.

2- أن لا يعارض نصا؛ فالمشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه، وأما في حال مخالفته النص فلا يعتد بهما.

 3 – أن يكون الحرج عاما، قال ابن العربي -رحمه الله-: “إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس فإنه يسقط، وإذا كان خاصا لم يعتبر عندنا، وفي بعض أصول الشافعي اعتباره، وذلك يعرض في مسائل الخلاف”.

ج – النظر إلى المآلات:

وقد سبق أن تحدثنا عن هذه النقطة في أثناء حديثنا عن سمات ومظاهر منهج الوسطية، ونؤكد مرة أخرى على أن اعتبار المآل أصل ثابت في الشريعة دلت عليها النصوص الكثيرة بالاستقراء التام، كما في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ}( ).

وقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}( ).

وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أشير إليه بقتل من ظهر نفاقه قوله: “أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”( ).

وقوله: “لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم”( ).

يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله- في أهمية اعتباره عند النظر والاجتهاد: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفه، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل؛ فقد يكون مشروعا لمصلحة قد تُستجلب أو لمفسدة قد تُدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحه تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها؛ فيكون هذا مانعا من انطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة مثلها أو تزيد؛ فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جارٍ على مقاصد الشريعة”( ).

وكم جنت الفتاوى المتسرعة على الأمة الإسلامية من ويلات في الداخل والخارج؛ فقد أفتى بعض الشباب المتسرع في الثلث الأخير من القرن الماضي باستحلال دماء كثير ممن يخالفهم الرأي؛ فسفكوا دماء كثيرة، وأعطوا الفرصة للطغاة بالتسلط عليهم وعلى ذويهم؛ بل راح ضحية هذه الفتاوى عشرات الآلاف من الشباب الطاهر النقي بحق وبغير حق، وخسرت الأمة هذه الطاقات التي لو وجهت وجهة صحيحة لأثمرت وأفادت نفسها وأمتها.

وأفتى بعض العلماء بجواز الصلح مع إسرائيل قياسا على صلح الحديبية، أو أخذا من ظاهر النصوص التي تدعو إلى السلم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث في بنود هذا الصلح وأثره على الأمة العربية والإسلامية؛ فكان ما كان، وعشنا نجني المر والعلقم من جراء هذه الفتاوى المتسرعة التي لا تراعي المقاصد ولا تنظر في المآلات.

إن الإفتاء في النوازل عملية مركبة تحتاج إلى جهد كبير من المفتي بل من مجموع المفتين؛ حتى تأخذ الفتوى حقها من التأصيل والتفصيل من مراعاة الزمان والمكان والحال، من فهم للوقع واستشراف للمآل.20


1 التعليقات:

بارك الله فيك يا دكتور .

إرسال تعليق

شارك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More